الوجه الآخر لظاهرة الحراقة
وحبب أوطان الرجال إليهم، حب الوطن من الإيمان، كلمات وجمل لطالما سمعنا صداها يصول ويجول بين طيات الزمن وبطون الكتب، هذا نظرا لارتباطها الوثيق بالانسان منذ نشأته على هذه البسيطة، حيث يعد حب الوطن ومسقط الرأس أمرا جُبلت عليه النفس البشرية منذ كينونتها الأولى، وربما تجاوزت إلى الحيوان الأعجم .لكن هذه المعادلة التي لا تحتاج إلى اجتهاد أو إعمال عقل، قد تصطدم بعدة عوامل تحيد بها عن الصراط، وتضرب بها عرض الحائط مرغمة أو كما قيل قديما “مكره أخاك لابطل”.
إذ أنه بين الفينة والأخرى تطل علينا وسائل الإعلام السمعية منها والبصرية وكذا وسائل التواصل الاجتماعي بشتى أذواقها وألوانها، بأخبار عن هجرة العقول والأبدان متغربة عن أوطانها، كل منهم قاصد سبيلا ما، إما لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، أو طلبا للرزق أو العلم أو شيء آخر لا يعلمه إلا الله والحامل للحقيبة وجواز السفر والتأشيرة التي تعد أمرا صعبا عند ذوي الدخل الضعيف واليد المقبوضة، الذين يلجؤون إلى طريق آخر للسفر أوهرب من واقع أليم، ولعل هذا الأمر ليس بمعزل عن جزائر المعجزات والممكن واللاممكن، إذا يعود الشبح القديم الجديد، الذي خطف الأضواء والأبصار، وأضحى مادة إعلامية دسمة، شغلت الساسة وأهل الدين وحملة الأقلام،كما نجدها تصدرت عناوين الصحف عندنا، وربما العالمية والدولية ألا وهي الحرقة المشتقة، من حرق الوثائق حيث أن (الحرّاق) عندما يصل إلى الضفة المقابلة، أول شيء يقوم به هو حرق كل وثائقه وأوراقه الشخصية حتى لا تُعرف هويته، وتسمى بمعنى آخر الهجرة الغير الشرعية إلى جنات عدن أومدينة أفلاطون الفاضلة التي لايشقى فيها أحد ولا يظلم عند حاكمها أحد -في تصور الحرّاقين- هذا هو الحلم الذي يراودهم بكرة وعشيا، ويجمعون له النقير والقطمير لأجل إتمام هذه المغامرة الحبلى بعديد القصص التي يندى لها الجبين، حيث أنك تراهم يخططون لها بسرية وحذر شديدين، منتظرين الفرصة السانحة للإبحار على قوارب الموت القليلة النجاة، شباب في زهرة العمر، كهول، أمهات مع أطفالهن، وحتى المسن ذو الشيبة، كل هؤلاء يمتطون أمواج البحر التي ترحم، مكتظين في قارب بالكاد يستطيع حمل هذا العدد المزدحم من الخلق لرحلة مظلمة متموهة تخرج عند الفجر، حتى لايعلم بها رجال الأمن، يقودهم شخص غامض عالما بناصية الطريق لشواطى أروبا، هذا بعدما أخذا قسطا كبيرا من المال عن كل راكب في قاربه الصغير، سعداء بهذا الإنجاز الموثق بصور (السيلفي) لذا بعضهم، متناسين ماهم مقدمين عليه من الأسى لهم ولذويهم الذين تقطعت قلوبهم حزنا على اختفاءهم الغامض، وماهي إلا أيام حتي تأتينا الأخبار عن وجود جثث مجهولة الهوية لفظها البحر، ومنها ماغاب في بطن الحوت، أما الناجون القليلون فقد أعيدوا إلى بلدهم بعد التنكيل بهم من طرف قوم آخرين، أما من عرف كيفية التسلل والوصول سالما غانما للجهة الأخرى من المحيط، يبقى مجهول الهدف والمصير إلى إشعار آخر.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه مالشيء الذي دفع هؤلاء إلى ترك وطنهم، والسفر نحو المجهول؟ كما أن فيهم المثقفين والحاملين للشهاد، والغريب حتى الشيوخ الذين هم في أرذل العمر، هل الجزائر بما فيها من خيرات والهيبة لم تستطع منع أبنائها من الهرب إلى الدول الأخرى التي قد لايصلون إليها إلا في الكفن؟، فياترى أين مربط الفرس من كل هذا الخطب الأدهى والأطم؟ وهل بحق للبعض أين يتهمهم بالمتهورين والمنتحرين؟ فإذاً هناك حلقة مفقودة من كل هذا، إذ أنه من المحال أن ترى شخصا لبيباً يعيش في ظروف حسنة، مرتاح بين وأهله ووطنه، وبعدها يلقي بروحه هاربا إلى موطن آخر غريب عنه لغة وديانة ومبادئاً، ربما الإجابة عن كل هذه التساؤلات نجدها في الجزائر العميقة، تلك الجزائر التي قد لا تصل إليها العدسات والقنوات الحكومية، التهميش واغتيال المواهب وتضيع الطاقات الهائلة للشباب الطموح وخرجي الجامعات والحقرة والمحسوبية، السكنات الهشة المهددة بالسقوط والتي يقطن فيها الشعب (الزوالي)، التوظيف والمناصب لاتمنح إلا بملف جديد لايرى هو( المعريفة)، لأن الكفاءة ذهبت مع أهلها -إلا من رحم الله-، مشاريع استثمارية مازالت لم تكتمل من عشرات السنين، مع أنه ضُخت فيها الملايين من الدنانير، طرق مهترئة حصدت آلاف الأرواح ولم تُعبَّد بعد، وعجز صارخ في التوظيف، أما المشاكل الاجتماعية والأسرية التي يعاني منها البسطاء يوميا لاحصر لها، وبعد كل هذا نسأل عن سبب الهجرة الغير الشرعية، حينما نحترم المواطن ونعطي كل ذي حقة، ونستأصل سوسة الفساد من جذورها، عينئذ سنقضي على ظاهرة الحرقة إلى الأبد.
بقلم مبروكي محمد