تَوات…إشراقة علم وتاريخ
في الذكرى 18 لرحيل العلامة الشيخ سيدي محمد بلكبير1911م/2000م
العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثو دينارا ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم فمن أخذه ققد أخذ بحظ وافر، ذلكم هو ميراث الأنبياء التليد المقدس، والنور المستنير الذي لايأفل بدره، ولا تغيب عن الأفاق والعوالم شمسه، فضل من الله يؤتية من يشاء من عباده الأكرمين، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ حظيم.
إن أعمار البشر لا تقاس بعدد السنين التي يعيشونها على هذه الغبراء، ولا بعدد القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث التي يكتنزونها، ولا بأنسابهم التي يفاخرون بها بين الملأ، فهذا حتما سيزول وينقضي بعد انتقالهم إلى الأبدية البيضاء، ويُضرب عنهم الذّكر صفحا، فلا أحد يسأل عنهم كأنهم لم يكونوا شخصا ولانصاًّ، هذا ما عدا بعض صورهم مدروجة في الرفوف التي أكلها الغبار، تلكم هي حياة بعض البشر في هاته الدنيا وكثيرٌ ماهم. لكن أعمار الخلْق تقاس بما قدموا ومانشروه من علم وإحسان بين الورى، وهذا ما يجسده قول النبي الكريم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ، وذكر منها ” علم يُنتفع به”، فالعلماء أعمارهم تجاوزت الزمن والسنوات الضوئية، خلود مجيد وذكر حسن في الوجود، والدراس للتاريخ سيقف عند العديد من النماذج العصماء، من أرباب الحجى وفطاحل العلماء الخُلَّص الذين مضى على وفاتهم مئات السنون والأعوام، غير أنهم مازالوا بين أظهرنا، ولا يفارقوننا لحظة من زمن، فأسماؤهم وأعمالهم مازالت تشغل العالم إلى اليوم، سواءً بما ألفوه من كتب علميـة ومخطوطات أو من خلال طلابهم الذين ينقلون عِلْمهم ويواصلون سبيلهم المضيء فلا يحيدون عنه قيد الأنملة, ناهيك عن فيض المحبة والقبول من لَدُن العباد.
ومنطقة (توات) هذه الحاضرة التاريخة المشهود لها من قبل المؤرخين على غرار صاحب (المقدمة) ابن خلدون، وغيره ممن مروا على هذا البلد الأمين المعروفة بطيب أهله وجودهم الفطري، لا تخلوا من أولئك الأماجد الرسوخ، والعلماء العدول، فالشيخ عبد الكريم المغيلي هذا العالم المغربي التلمساني حين دخل توات في القرن العاشر الهجري قال مقولته الشهيرة ( دخلنا توات فوجدناها دار علم والمعرفة فانتفعنا منهم وانتفعوا منا)، فكانت حاضنة بحق لسبيكة عظيمة من العلماء والفقهاء ومعبرا لهم، على غرار “الشيخ مولاي أحمد الطاهر الإدريسي، وسيدي أحمد ديدي، والقاضي العصنوني، والشيخ عبد الرحمن التنيلاني، الشيخ باي بلعالم، والشيخ سيدي محمد بلكبير -رحمهم الله جميعا-“غيض من فيض وثلة من نوابغ الدهر والقمم السامقة، ممن أفنوا دينهم وديدنهم في التعليم والتربية والإصلاح ذات البين، حفلت بهم المنطقة، ونقشت أسماؤهم بمعدن نفيس في دنيا الأحياء.
وقبل الأيام مرة علينا ذكرى وفاة الضوء المستنير والإشعاع المنير، العلامة سيد محمد بالكبير رحمة الله عليه (1911م/2000م)، هذا الولي الصالح الزكي، والبحر الفهامة العبقري، نادرة من النوادر التي يجود بها الزمان قليلا، نور على نور، فريد عصره ومتصدر أقرانه، كان آية في التواضع والعطاء، وقِبلة لطالب العلم وطالب الدنيا، بشوش المحيا، طلق السريرة، لا تلقى منه سوى الكَلم الطيب، ودماثة الخُلق ولين الجانب، أحبه الصغير قبل الكبيرـ فنال ثناء ومودة ساكن القصور وساكن الأكواخ، لأنهم كانوا جميعا أمامه سواسية كأسنان المشط، فسدد وقارب وفتح جَنانه لكل الزوار والتلاميذ والضيوف الذي يَفِدون إلى مدرسته وزاويته العامرة، أسسها في وسط مدينة أدرار،حيث كانت ولا زالت منارة ومَحجا لكل التلاميذ والطلبة من مختلف ولايات الوطن وخارجه، حيث خرَّجت عديد الأئمة والشيوخ والأساتذة، من يملؤون ربوع المنابر هذا الوطن دعوة وإرشادا وإصلاح، متممين رسالة المعلمهم–رحمه الله-، واليوم بعد مرور 16 سنة على رحيل هذا الرجل العظيم، والإمام الضليع النحرير، بقي حبه راسخا في قلوب كل من عرفوه، من قريب أو بعيد، فالحاضر للمسجد الكبير بأدرار سيقف مشدوها عند رؤية ذلك البحر الخضمضم من البشر الذين يتوافدون رجالا وركبانا، لقراءة الفاتحة أوما يعرف عنـــدنا “بختم السلكة”، مناسبة ذكراه العزيزة، جمع غفير من جميع نواحي الجزائر، من مسؤولين والأساتذة وشيوخ زوايا، شيبا وشبانا، ولكأن الشيخ مازال على قيد الحياة يمشي بينهم، وقد دأبت مديرية الشؤون الدينية والأوقاف بأدرار، على إقامة ندوة علمية سنوية، تناقش فيها جملة من جوانب الشيخ من طُرق تعليمه، وشرحه للمتون والتفسير، ومنهجه في تدريس الفقه ومحاربتة والخزعبلات التي كانت تعج بها المنطقة في وقت من الأوقات، حيث انبرى له رحمة الله عليه، ودكها دكاًّ بما أوتي من الحكمة والدهاء والفِراسة، ولمن أراد الإطلاع على سيرة هذا المعلم العبقري، فليقرأ ما كتبه عنه تلميذه الشيخ مولاي التهامي غيتاوي –رحمه الله-في كتابه” الضوء المستنير” فقد فصّل حياته من الميلاد إلى آخر جمعة له ذات فجر غاب فيه الصباح برحيل شمسه من على سماء تَوات، عن عُمُر ناهز 90 سنة، كانت وَقْفا للعطاء والبناء والدعوة لله بالتي هي أحسن، فنال يهذا ثناء المتقدمين ودعاء المتأخرين، هذا مع بُعْده وتورعه عن كل الأضواء ووسائل الإعلام متمثلا مقولة ابن عطاء الله الســـــــــــكندري( أزرع نفسك في أرض الخمول، فما نبت مما لا يدفن لا يُتم نتاجه) كما كانت له مقولة شهيرة كان يرددها في دروسه نقلا عن أحد تلامذته قوله: (حب الظهور، يقسم الظهور).
نعم هي حكاية شخصية أنصت لها الدهر، وصفق لها التاريخ، شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، كان منبتها حسن ورزقها حسن، عسجد مشع لا يخفى بريقه أبدا مع تَقادم السنين، ودُرٌّ مكنون في الصدف، وفوق هذا لسان صدق في الآخرين، فكان من الخالدين ويكفينا قولا ما كتبه العلامة المرحوم الشامي (مصطفى السباعي) في كتابه الذائع الذكر” هكذا علمتني الحياة” ( إن الخلود في الدنيا نوعان، خلود الظالمين وقتلت الشعوب، وخلود العظماء والعلماء ورموز الأمم، فالصنف الأول يُخلدون بلعنة الناس لهم، والصنف الثاني بُخلَّدون برحمة الناس عليهم.)
فسلام عليك يا سيدي محمد بلكبير، يوم ولدت ويوم مُتَّ ويوم تبعث حيــــــــــــاً .
بقلم محمد مبروكي