حياتنا بين الثابت والنقال
استوقفتني كلمة ” الثابت “ ليس لأنني لا أفهم معناها ولكنني مررت عليها مقرونة بكلمة ” الهاتف الثابت “ ثم قلت في نفسي:وما ثبات الأخلاق إلا في الهاتف الثابت!
سُميَ الهاتف الثابت لثباته في مكانه، وسُمي الهاتف الشخصي أو النقال لملكيته لشخص واحد ولأننا نستطيع التنقل به إلى أي مكان أثناء الحديث.
لَكَمْ كان الهاتف الثابت يَحُولُ دون أي كلام خارج السياقِ في البيت فكان المساهمَ والمحافظَ على الحد الأدنى من الأخلاق والآداب، فقد جرت العادة أن يُوضع في مكان عام يراه ويسمع رنينَه العام والخاص إذ يستحيل معه كتم سر إو إخفاء شيء، فحين انتهاء المكالمة غالبا ستجد نفسك مضطرا لمواجهة سيل من الأسئلة عن ” مكتب التحقيقات “ في البيت خصوصا فيما لو أحسُّوا أنك تعمدت إخفاء هوية صاحب المكالمة، أو أن الغموض يكتنف المكالمة إجمالا…أسئلة من قبيل ” من المتحدث ؟ وماذا يريد ؟ وما علاقتك به ؟ وقس على ذلك ….
كان الكثيرُ منا ترتعدُ فرائصه حين الإجابة فإما اعتراف يعقبه تبرير أقبح من ذنبٍ! وإما إنكار بنبرة”صاحب التهمة قلق…“ لا لا يبدو أن أحدَهم أخطأ العنوان “ والعجبُ كل العجب ممن يخطئ العنوان ويستمر في الحديث لدقائق ! عموما أنت تعرف أن سائلك يعرف أنك تراوغ وفي ذلك إنذار لتجنب التكرار
من منا كان يتجرأ على الرد في الهاتف الثابت بعد صلاة العشاء أو مع الفجر غير عميدِ البيت أو كبيرِ القوم؟ من ذا الذي كان يستطيع الهمز والغمز واللمز حينها عدا لو كان البيت فارغا من أهله؟ حقّا كان الهاتف الثابت فكان البيت ثابتا وكانت الأخلاق كذلك…وفيما لو قارنته بالهاتف الشخصي فما أكثر من انعزلوا به فكان الشيطان ثالث المنعزلين…وبرغم محاسنه التي لا تُنكَر ولا تُجحَد وبصرف النظر عن قيمة التكنولوجيا فبيَدِكَ أنت تُصَيِّرُها حلالا وبذات اليد تجعلها حراما، فالنقال يا سادة إن لم يسعفك الكلام في باحة البيت فكل مكان في البيت لا يُسمعُ لك فيه همس فهو يؤدي الغرض…أصبح الاختلاء للبالغين والراشدين والقصر…مكالماتخاصة بعد منتصف الليل حيث السكون التام ولا ندري من المتحدث أو المتحدثة ولا حتى موضوع الحديث ومدة المكالمة؟ حتى أن كثيرا من شركات الاتصال تعرض عروضا لزبائنها تبدأ من منتصف الليل إلى طلوع الفجر وشعارها ” عيش لافي “. أي حياة هذه التي تنتزع منك وقتا جعله الله لنا سكونا…أي حياة تلك التي لا نكاد نجد فيها ملبيا لعروض مجانية من رب السماء لقيام الليل والتهجد بالذكر والاستغفار والدعاء؟ وما بين الثابت والنقَّال أراني شاخصا ببصري إلى السماء…فيا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك…نسألك اللهم أن تجعل أنسنا بك مهربا من شهوة أنفسنا، وتجعل خلوتنا في حضرتك سرَّ سعادتنا، وابقنا موصولين معك مهما اشتدت الفتن، فلا تحلو الحياة إلا بالبقاء معك يا الله . أوقاتكم ثبات وعلوُّ مقام…وخلوة مع من عينه لا تنام .
بقلم / جمال معطاالله .
مقال أكثر من رائع
شكرا على مروركم الكريم