رقان رحلة وجع
يمر الزمان سريعا مع الأيام ، وتتعاقب الأعوام والسنون، لتبقى شاهدة على عار وإثم العظيم، ظلّ منقوشا لايتقادم أبدا بتقادم الدهر وأحواله، فهو يواكب الأجيال المتدافعة من رحم أمهاتها، يوزع عليهم البؤس والموت الملوث والألم ظالم، كما توزع أكياس الطعام في الحصار والملاجئ، غير أن الطعام في تلك المنطقة التي لايعلم حالها إلا الله وبعض المغادرين للحياة صمتا، يعد موبوءاً يحمل السم الزعاق والعضال المردي، منتقلا في السلالة والأسرة الواحدة، فلا بيقي فيها ولا يذر، مصحوبا بشيء من الحزن الدفين، وشكوى متكررة لم تجد سوى أبوابا موصدة، وقلوبا غلفا وأذانا صما وأبصار عميا.
تلكم هي منطقة (حموديا) التي تبعد عن مدينة (رقان) قرابة 70 كلم، ومن منا لا يعرف هذه المدينة التي تضرب في صحراء الجزائر الشاسعة طولا وعرضا، ذاك المكان المعروف بشمس كالمهل تشوي الوجوه وطبيعة قاسية ، ورمال ممتدة مد البصر، حيث الحياة هناك لم يبقى منها سوى باسمك اللهم، لاشجر ولا بشر ولابقر، بل أنك بالكاد تسطيع دخول تلك المنطقة المحرمة، لأن ولوجك إليها منذر بحتمية الوفاة أو الإصابة بداء لا شفاء منه، لتواجد إشعاعات نووية منتشرة تقاس مدة صلاحيتها بالقرون على حد قول أهل البحث والاختصاص، وذلك يعود إلى القنبلة النووية ويرابيعها الثلاث المنجزة من لَدُن بلاد (ديغول) و(بيجو) من عاثوا خرابا وفسادا في الجزائر وأهلها، فقتّلوا وصلّبوا وقطّعوا الأيدي والأرجل من خلاف، وجعلوا من القصور المشيدة آبارا معطلة، ختموها خرابا مستطيرا وجرحا مسفوحا لم يجف إلى يوم الناس هذا، بل لا زال يحصد الأرواح البريئة تواليا، بعد مرور ما يربو عن 56 سنة على خروج هذا السفاح فرنسي، ألا وهي حادثة 13فيفري 1960م، وما خلفته من خسائر مادية وبشرية لاتحصى، سيما وأنها جربت على بشر يأكلون الطعام ويمشون في أسواق، ومنطقة آهلة بالسكان، قبل أن تحال أرضا جرداء تعصف فيها الريح، في وصف -سبق ذكره- بل حتى أنه من أبناء فرنسا نفسها جعلوا فئران تجارب.
فالذي لا يرقب في إبنه إلاًّ ولاذمة، كيف يرقبه فيمن لاتربطه صلة به ولا رَحِم، مساء مريع وانفجار فظيع شهدته الجزائر عامة، وقاطني مدينة (رقان) خاصة، علما أن فرنسا قدمت تقريرا للرأي العام عن خلو المنطقة من كل أنواع الحياة، وأن هذه التجارب كانت في صحراء قفراء لازرع فيها ولاضرع، لكن الواقع يُفند هذا كله، رغم ادعائها التحضر والدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، فالزائر لهاته النقطة الموبوءة من الأرض، سيقف عند صور شنيعة يندى لها الجبين، كان ضحيتها جل سكان المنطقة وما جاورها، تجلت في عديد التشوهات الخَلْقية لم يشهد لها مثيل، أمراض غريبة مستعصية لم يجد لها الطب علاجا إلى الآن، داء السرطان يسري بشتى أنواعه المعروفة والمجهولة في الناس هناك، إجهاضات للنساء الحوامل في المستشفيات، وفيات كثيرة للأطفال الرُّضَّع، وأمراض هجينة وعديد الإعاقات الجسمية والعقلية مردها إلى خلل في الجينات الصبغيات، أولاد لا يبصرون إلا ليلا، حتى لقبوا (بأطفال الليل)، ورماد متوارث سبب العمى للقاطنين هناك. صور حزينة التي لا تنتهي ولن تنتهي،
ناهيك عن عديد الوفيات يوميا، يحدث كل هذا على مرئ ومسمع من المسؤولين وأهل الحل والعقد في الجزائر، من يترقبون هاته الذكرى، لإلقاء نظرة خاطفة على (رقان) يقيمون فيها الدنيا ويقعدونها بكلام على المنابر، منديدن بجرائم فرنسا النكراء في الصحراء منتظرين اعترافها بصبر يائس، علما أنه لن يحدث حتى يلج الجمل في سمّ الخياط، مادام أبناؤها بين أظهرنا، ومن ثَم يقيمون المراسم المتعارف عليها، خاتمين الزيارة بقراءة الفاتحة والدعاء لشهداء هذا البلد الأمين والحزين، وبعدها تغيب (رقان) وشجُّها المتعفن من شدة السيلان الذي لم يجد الضماد الناجع بعد.
وعلى حَدّ قول الراحــل “محمود درويش” (تنسى كأنك لم تكن) على أمل إعادة التذكير بها في العام القادم في نشرة الثامنة مساء على قناة (اليتيمة)، تاركين من وارئهم المعطوبين والمفجوعين والمكلومين من لايملكون حيلة ولا يهتدون سيبلا، في بيوت يملؤها الأنين، وعيون دامعة، وقلوب رجيفة، وقد شهد شاهد من أهلها على هذا الوضع الكئيب، إذ يصور لنا الكاتب الفرنسي “فيكتور مالو سيلفا” صاحب رواية (رقان حبيبتي) التي ترجمها الناقد الجزائري“السعيد بوطاجين” ما ألمَّ بصحراء الجزائر قائـــــــــــــــــــــلا: (لقد عملت الآلة العسكرية الفرنسية، خلال وجودها في الجزائر على إذلال السكان الأصليين و التراب والرمل والشجر والحيوان، وتلك مسألة واضحة، بَيْد أنها اغتالت قسما كبيرا من الجنوب بفعل الإشعاعات التي لن تنتهي تأثيراتها قريبا، وقد تستغرق مئات القرون. ما يعني أن فرنسا الاستعمارية ستظل مصرة على الجريمة، مهما بدت بعيدة في عيوننا… ولن تغادر البلد مادامت مقيمة تحت الرمل وفي جهات أخر. دفن حطام التفجيرات، وكل الآلات التي وجدت قرب حموديا : الطائرات، والدبابات والرافعات ووسائل الاستشعار، على عمق مترين تقريبا، حتى لا تنتقل العدوى إلى ما وراء البحر، وعلى الرمل أن يقاوم التسريبات التي تصيب الناس والبيئة اليوم, وأجيالا ستولد مشوهة ومهددة بالخطر النووي القائم…) ذاك ما يشير له الكاتب على أساس الأرشيف و ذاكرة أولئك الذين كانوا شهود عيان ، وكذا وثائق علمية خاصة بآثار القنبلة الذرية وإشعاعاتها، كما أن الرواية تنقل لنا حكاية مأساوية عن البلد برمته التعذيب والسخرية والاستعلاء والقتل، كما ركز الكاتب على الجنوب الجزائري الذي شهد كل الاجتهادات الذرية بأنواعها، قبل الاستقلال و بعده، والحق ماشهد به الأعداء.
وبين هذا وذاك تبقى وعود ذوي ربطة العنق لأهل هذه المنطقة المتضررة بحمى الإشعاعات النووية بالعناية والمتابعة وتوفير أجهزة طبية حديثة والتكفل العلاجي بهم يرواح مكانه إلى اليوم، وكلما سئلوا عنه حاول تجنبها بطريقة أو بأخرى، تاركين الحبل على الغارب، كأن أمر هؤلاء القوم لايعنيهم بعدما رمتهم فرنسا بدائها وانسلت، والغريب قد تجد بعضا من أبناء الجزائر لا يعرف هذا المكان وما ألم به إلا سطحيا، نظرا لتعتيم إعلامي مركب كشفته بعض القنوات العالمية، وثلة من الجمعيات الفاعلة الخيرية والمؤسسات الوطنية والدولية، التي مافتأت بين الفينة والأخرى تقوم بالإطمئنان على هؤلاء الضحايا محاولة أدخال والفرحة والسرور على صغارهم، كما أن للأقلام قسط وافر في قضية (رقان) على غرار الباحث العراقي الجزائري ” الكاظم العبودي” صاحب كتاب (يرابيع رقان)، وعديد البحوث والمذكرات الجامعية والمقالات والدراسات الأكاديمية ، من سعت لإزالة اللثام عن كل مخبوء في (رقان)، عالم كان أسير المحبسين، التهميش والوجع.
بقلم:مبروكي محمد