زراعة التبغ بين البعد الحضاري و المخاطر على صحة الفلاحين وإنعدام الغذاء العالمي 

يعتبر التبغ  من النباتات الصناعية التي تباع في الأسواق العالمية بأسعار باهظة وهو ما دفع  لتخصيص مساحات شاسعة من الأراضي لزراعته والتي غالبا ما تكون أراضي  فلاحية لها الأولوية في استغلالها  ا لزراعة المحاصيل والخضروات والحبوب , لتصبح تجارة ذات عوائد مادية نظرا لشرعيتها القانونية التي تكون إجراءاتها مخففة  بخلاف زراعة الحشيش ومادة الكيف القنب الهندي.  

زراعة الشمة إرتباط حضاري بالحقول الأدرارية 

تعد زراعة التبغ في  أدرار بالجنوب الغربي للجزائر من الزراعات ذات  البعد التراثي الذي المرتبط   بالفلاحين الذين اعتمدوا عليها منذ القدم في كمادة طبيعية  تستعمل لمقاومة الطفيليات والحشرات وذلك بزراعة كميات قليلة منه بمحاذاة المزروعات ,فالتبغ  أو ما يعرف محليا بزراعة الشمة أو الشم  قد مثلت زراعتها شكلا يعرف إنتشار كبير وإستخدام متنوع بين فئات المجتمع ,حتى بين الجنسين رجالا أوو نساءا  , حيث أن استعمالها وتناولها لم يكن ينظر له بشكل سلبي , كونها جزء من الحياة النمطية فكانت النساء لا يستغنين عنها بأن تكون جزءا من الصيدلية المنزلية  خاصتهم أو ضمن المخزون الغذائي ما يسمى بالعولة  وكان يروج  لها كمادة  يمكن استخدامها  لمكافحة التسوس والصداع وذلك بوضعها مباشرة في اللثة ,أو تحت الأسنان  , فيما عرف إستخدامها بشكل كبير بين الرجال لما مثلته من مظاهر الرجولة لديهم قديما  كباقي المظاهر التقليدية المعروفة كإستخدام البنادق و تعاون رجال القرية في أعمال البناء أو ترميم المساجد وجمع الحصاد وثمار التمر بما يعرف بالتويزة وهي الكلمة التي ترجع للسان الزناتي بمعنى التعاون والتضامن و قد كان يتم استهلاكها إما بالاستخدام الموضعي فوق اللثة ,أو تدخينها وذلك بعد تخميرها وإعدادها بطرق خاصة للاستهلاك.  

تعتبر مادة الشمة أو التبغ المستخدمة محليا في أدرار من أكثر الأنواع سُمِّية من حيث قيمة مفعولها و كونها تعتبرمادة أصلية خالصة وهذا ما كان يجعلها مطلبا للعديد من شركات إنتاج التبغ والشمة , فانتقلت زراعتها من مادة تزرع على مساحات صغيرة أو بساتين إلى مادة  توسعت زراعتها في مناطق شاسعة من مختلف الأراضي الفلاحية خصوصا مع صدور القانون الخاصة بتوزيع الأراضي الفلاحية  لقطاع الاستصلاحات 18/83, , وأصبح يتم الإستثمارفيها لتصبح مصدرا للدخل بعدما وجد الفلاحون أن القيمة المالية المتحصل عليها من بيع التبغ اعلى قيمة من الزراعات المختلفة الأخرى .

وعلى جانب مختلف من ذلك فإن مادة التبغ رغم سهولة غرسها وعدم احتياجها لمواد عناية شديدة إلا أن لها انعكاسات صحية وبيئية تسبب أضرار كبيرة للمزارعين والفلاحين بشكل خاص وعلى الأراضي الفلاحية أيضا ،في حديثنا مع الأستاذ توهامي هيدور خبير في مجال الفلاحة وزراعة الخضروات و مستشار فلاحي للمديرية الفلاحية بولاية أدرار ذكر بأن مادة التبغ أو الشمة  المستعملة في ولاية أدرار لها سمية قوية جدا كما كونها أصلية وتأثيرها مضاعفات صحية كبيرة تعود على الفلاحين الذين يلتقطونها على وجه الخصوص , رغم أن أوراقها قد لاتشكل خطرا عند ملامستها بشكل مباشر من المرة الأولى لكن لمسها بشكل متكرر أو فرك عصارتها على اليد قد يشكل خطرا كبيرا من نوعه بالدرجة الأولى في حال ملامسته لراحة اليد و العين , ومن جهة أخرى فإن استنشاق مادة التبغ في الحقول بحد ذاته قد يشكل خطرا على المزارعين  لما له من انعكاسات سلبية على الجهاز التنفسي .

كما أوضح التوهامي هيدورفي لقائه معنا بأن مادة التبغ تضر بشكل كبير بالبيئة والأراضي الصالحة للزراعة , كونها تملك جذورا قوية بوسعها امتصاص معظم المواد و المعادن بشكل كبير مما يحرم المزروعات المجاورة منها وقد يتسبب في كسادها و ضعف نموها خصوصا الطماطم و الخضروات التي تحتاج للمواد الغذائية المعدنية المتحللة من الأرض , كما أن سمية مادة التبغ التي تتسبب في طرد الحشرات و العوالق الأرضية سيكون له إنعكاس سلبي من حيث حاجة الأرض لتحليل الأسمدة الطبيعية وحتى الكيماوية منها , فمادة التبغ لها قدرة على استنفاد المواد الغذائية من الأراضي الزراعية وتحويلها لأراضي قاسية خالية من المغذيات الضرورية للزراعة كما  تحتاج لسنوات حتى تستعيد قوتها من جديد وترجع ارضا صالحة للزراعة ,وفي ظل مساعي الدولة الجزائرية للتحصيل محاصيل زراعية تؤمن الغذاء فإن زراعة التبغ قد تمثل خطرا كبيرا يداهم المجتمع الزراعي ,لكن بخلاف العديد من الدول فإن زراعة مادة التبغ بالجزائر تخضع للعديد من القواعد والإجراءات التي تسعى للتقليل من زراعتها أو تخصيص مساحات خاصة للإستثمار فيها,كما يعتبر تهريبها وبيعها على شكل مقايضة او نقلها لخارج البلاد جنحة يعاقب عليها القانون الجمركي حيث يمنع تصديرها بدون رخص خاصة من الدولة .

منظمة الصحة العالمية : زراعة التبغ تشكل خطرا على أمن الغذاء العالمي 

تشكل زراعة التبغ تهديداً خطيراً للتنوع الزراعي والأمن الغذائي العالمي , رغم ارتباطه حضاريا بالعديد من الثقافات المختلفة بأفريقيا وآسيا والأمريكتين ,   تدهور الأراضي والمساحات الشاسعة التي بلغت 3.2 مليون هكتار من الأراضي الخصبة تتوزع في أكثر من 124 دولة     و إزدياد الحاجة لتوفير الغذاء في ظل انخفاض إنتاج الغذاء ، وسوء التغذية الذي يواجه اكثر من 349 مليون شخصا يعانون من انعدام في الغذاء العالمي حسبما أشارت له تقارير منظمة الفاو الأخيرة التي تدعوا لجانب منظمة الصحة العالمية  لإيقاف زراعة التبغ و إطلاق مبادرة عالمية لمزارع خالية من التبغ بهدف مساعدة آلاف المزارعين في كينيا و زامبيا على زراعة محاصيل غذائية مستدامة بدلا من التبغ ,كما ذكر الدكتور مدير تعزيز الصحة بمنظمة الصحة العالمية روديجر كريتش بأن الأهمية الاقتصادية للتبغ هي “أسطورة نحتاج بشدة إلى تبديدها”.حيث يساهم محصول التبغ بأقل من 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في معظم الدول التي تزرعه، وأن الأرباح تذهب إلى الجهات الرئيسية المصنعة للسجائر في العالم، بينما يرزح المزارعون تحت عبء الديون المتعاقد عليها مع شركات التبغ

لطالما دعت منظمات الصحة العالمية لمحاربة زراعة التبغ بكل أشكاله كون إستخدامه وزراعته تشكل خطرا على صحة المزارعين و مستهلكيه بكل الأشكال وكذا أضراره البيئية, لكن هذه السنة فقد ركزت جهودها للدعوة لمنع زرع التبغ لما أصبح يشكله من خطر على أمن الغذاء العالمي , فحسب إحصاءات منظمة الفاو فإن 349 شخصا يعانون من إنعدام الغذاء عالميا و بشكل حاد نظرا لإنخفاض مساحات الأراضي المزروعة والحروب في شرقي أوروبا بأوكرانيا و العقوبات الأوروبية والأمريكية  المفروضة على روسيا .

بينما ركزت معظم التقارير الصادرة من منظمة الصحة العالمية و الفاو  على دعم الدول الإفريقية كونها تملك أراض هامة بوسعها أن تؤمن مخزونا هاما من الغذاء ولكن يتم استغلالها في زراعة التبغ  الذي إرتفع معدل زراعته بنسبة 15 بالمئة خلال العقد الماضي وقد مس أكثر من 30 دولة إفريقية , حيث كشفت التقارير بأن 9 من بين 10 بلدان تمارس زراعة التبغ هي بلدان ذات دخل منخفض أو متوسط الدخل و التي تعاني من أزمات غذائية حادة جدا و انخفاض في مستويات الأراضي الصالحة للزراعة’ 

و لمعالجة أضرار زراعة التبغ ، من الضروري اتباع نهج متعدد الأوجه. يجب على الحكومات الأفريقية والمنظمات الدولية تعزيز تنويع الممارسات الزراعية وتقديم حوافز للمزارعين للابتعاد عن إنتاج التبغ ,الذي يشكل خطرا اجتماعيا حيث يتم توجيه الفلاحين لزراعته دون أي إجراءات صحية معتبرة , فضلا  عن استغلال كبير للأطفال بنسبة 1.3 مليون لطفل يوجه لزراعة التبغ في الحقول ويستغل في قطف وجمع محاصيل التبغ.

تسعى المنظمات العالمية  للصحة للدعم التعاون العالمي الضروري لمكافحة التأثير السلبي لزراعة التبغ إذ تقترح عدة إجراءات منها أن يدعم  الدول المتقدمة البلدان الأفريقية في تنويع اقتصاداتها والانتقال إلى الممارسات الزراعية المستدامة وتوفير الاستثمارات في التعليم والرعاية الصحية ومصادر الدخل البديلة كحلولً قابلة للتطبيق لتخفيف العبء الاقتصادي لزراعة التبغ.

زراعة التبغ أضرار صحية على المزارعين والمستهلكين 

إن لزراعة التبغ آثار مدمرة على البيئة والصحة  إذ تحدث إزالة الغابات على نطاق واسع لإفساح المجال لمزارع التبغ ، و تدمر النظم البيئية الحيوية التي تساهم بدورها في تغير المناخ.وزيادة تلوث التربة ومصادر المياه ا.فضلا عن  تعريض السكان لمواد كيميائية سامة ، مما يؤدي إلى آثار صحية طويلة الأجل لكل من البشر والحياة البرية و صحة الإنسان على نطاق عالمي حيث  تحصد الأمراض المرتبطة بالتدخين 8 ملايين من الأرواح سنويًا حسب تصريحات منظمة الصحة ، وتتحمل إفريقيا عبئًا كبيرًا.منها , حيث تستهدف صناعة التبغ الفئات السكانية الضعيفة ، بما في ذلك الشباب والأفراد ذوي الدخل المنخفض ، بأساليب تسويق عدوانية. يؤدي هذا التسويق المفترس إلى استمرار الإدمان ، مما يؤدي إلى أمراض لا يمكن الوقاية منها مثل سرطان الرئة وأمراض القلب وأمراض الجهاز التنفسي .

لا يمكن التقليل من الأثر الاقتصادي لتكاليف الرعاية الصحية المتعلقة بالتبغ, إذ  يتم تحويل موارد الرعاية الصحية المحدودة لعلاج الأمراض المرتبطة بالتبغ ، مما يؤدي إلى إجهاد أنظمة الرعاية الصحية الهشة بالفعل حتى ان  مدير تعزيز الصحة بمنظمة الصحة العالمية الدكتور كريتش قد دعى المدخنين للتفكير مرتين قبل التدخين لما له من آثار إجتماعية تنعكس على حياة المزارعين والمجتمعات بقوله “فكروا مرتين“، لأن استهلاك التبغ يدعم الوضع الجائر الذي يعاني منه المزارعون وعائلاتهم ” مما يظهر مدى تأثير زراعة مادة التبغ حتى على المستوى الإجتماعي في الدول الإفريقية التي قد تفقد القوة العاملة بسبب الوفيات المبكرة ,وكذلك الديون والضرائب التي تفرضها مؤسسات بيع السجائر على المزارعين ,  كما تعد تكاليف الضرائب الخاصة بالمناخ كونه يساهم في تلوث مصادر المياه و ضياع 200.000 هكتار من الأراضي الخصبة ,كما تعد  4.5 تريليون فلاتر من السجائر يتم إنتاجها عالميا كسبب رئيسي في تلوث البيئة , وتضطر دول كالصين لدفع 2.6 ملياردولارأميركي لمكافحة التلوث الناجم عن أضرار التبغ فيما تدفع الهند 766 مليون دولار أميركي بينما تصل هذه التكاليف لحدود 200 مليون دولار اميركي في البرازيل و ألمانيا , كما تتخذ دول مثل فرنسا وإسبانيا و الولايات المتحدة الأميركية بكل من سان فرانسيسكوا  وكاليفورنيا إجراءات تخضع لمبدا يجبر المتسببين في التلوث لتحمل مسؤولية تاكاليف إزالة التلوث الذي تتسبب به مؤسسات وشركات صناعة التبغ 

تعتبر الأضرار التي تسببها زراعة التبغ وتأثيرها على الأمن الغذائي العالمي وصحة الإنسان عميقة. لا يمكن المبالغة في الحاجة إلى عمل شامل. من خلال معالجة القضايا الأساسية وتنفيذ تدابير فعالة ، يمكننا التخفيف من الآثار الضارة لزراعة التبغ ، وحماية البيئة ، وضمان الأمن الغذائي ، وتعزيز رفاهية الأفراد في جميع أنحاء العالم.

كتبه: رافعي محمد محي الدين

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.