عبد الحميد بن باديس: قامة علمية وروح قيادية تاريخية في الجزائر

تبرز شخصيات إستثنائية في تاريخ الجزائر الحديث تركت بصماتها العميقة في مسار الوطن، ومن بين هؤلاء الشخصيات العظيمة يتقدمنا بجلالة وعلم وإرث، الإمام عبد الحميد بن باديس، مؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. يعد بن باديس أحد الشخصيات البارزة في تاريخ الجزائر، الذي تميز بقيادته الروحية والفكرية، وبصماته الواضحة على الساحة السياسية والثقافية.

سيرته العلمية 

برز عبد الحميد بن باديس منذ صغره بعلمه وتفانيه في طلب العلم إذ وُلد في مدينة قسنطينة في عام 1889حيث  أظهر اهتمامًا بالعلم والدين و، حيث حفظ القرآن الكريم في سن الثالثة عشرة، مما يعكس تفانيه واجتهاده في سبيل التعلم والتربية الإسلامية الصحيحة. ومن ثم، تلقى تعليمه الشرعي من علماء بارزين في الجزائر، مما أعطاه القاعدة القوية التي بنى عليها مسيرته الحافلة بالعطاء والنضال.

كان بن باديس  فقيهًا ومفسرًا للقرآن الكريم و شاعرًا متميزًا، حيث أبدع في عدة دواوين شعرية تعبر عن حبه للجمال والروحانية. وبالإضافة إلى علمه وشعرهتميز بصفات الحلم والتسامح

إستمرت مسيرته التعليمية في جامع الزيتونة بتونس، حيث درس تحت إشراف كبار العلماء في ذلك الوقت، وتأثر بتعاليمهم وفكرهم النير عاد بعد ذلك إلى الجزائر، حاملاً معه العلم والثقافة التي اكتسبها خلال رحلته التعليمية.

النضال السياسي:

لم يكن دور بن باديس مقتصرًا على المجال الديني فقط، بل امتدت تأثيراته ليشمل الميدان السياسي أيضًا. فكان من بين المناضلين البارزين الذين ناضلوا من أجل الحرية والاستقلال، ورفعوا شعارات العروبة والإسلامية في وجه الاستعمار الفرنسي. ومن خلال نشاطه السياسي والثقافي، ساهم بشكل كبير في تشكيل الوعي الوطني وتعزيز الهوية الجزائرية.

ومن خلال جهوده العظيمة في مجال التعليم والدعوة، أسس عبد الحميد بن باديس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في عام 1931، وهي المؤسسة التي أصبحت رائدة في نشر الوعي الديني والثقافي والتربوي في الجزائر وخارجها. وكانت رؤيته الثاقبة تركز على أهمية تعليم الشباب وتوجيههم نحو القيم الإسلامية والعروبية، بهدف بناء جيل واعٍ متمسك بهويته وقادر على مواجهة التحديات الحديثة.

جمعية العلماء المسلمين إرث عبد الحميد بن باديس :

تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الخامس من مايو 1931، في نادي الترقي بالعاصمة الجزائرية، برئاسة الشيخ العلامة عبد الحميد ابن باديس. كانت الجمعية تهدف إلى خدمة الدين والمجتمع، وأكدت على عدم التدخل في السياسة. حضر الإجتماع التأسيسي أكثر من سبعين عالمًا من مختلف الاتجاهات الدينية والمذهبية، وتم انتخاب مجلس إداري يتألف من ثلاثة عشر عضوًا برئاسة الشيخ ابن باديس.

لم يكن ابن باديس حاضرًا في الاجتماع التأسيسي، ولم يكن معظم أعضاء المجلس الإداري من سكان العاصمة، لذلك عينوا لجنة للعمل الدائم تتولى التنسيق بين الأعضاء وتحفظ الوثائق وتضبط الميزانية. تحددت أهداف الجمعية في منشور نشره الشيخ ابن باديس، تشمل التعليم والتربية وتطهير الإسلام من البدع والخرافات وإحياء الثقافة العربية ونشرها والمحافظة على الشخصية الجزائرية ومقاومة سياسة الاحتلال. أسست الجمعية شعبًا (فروعًا) على المستوى الوطني، ونشرت اللغة العربية والثقافة الإسلامية، ونظمت بعثات تعليمية إلى المشرق العربي.

وفي عام 1949 شهد تشكيل مجلس الجمعية الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، حيث جلس عبد الحميد بن باديس كرئيس للمجلس، ومحمد البشير الإبراهيمي كنائب للرئيس، ومحمد الأمين العمودي ككاتب عام، والطيب العقبي كنائب للكاتب العام، ومبارك الميلي كأمين للمال، وإبراهيم بيوض كنائب لأمين المال. وضمت القائمة أعضاء مستشارين مثل المولود الحافظي والطيب المهاجي ومولاي بن شريف وغيرهم.

لم تغفل الجمعية عن الجالية الجزائرية في فرنسا، حيث أنشأت عشرات النوادي وأرسلت شيوخًا ومعلمين لتقديم المحاضرات وتعليم اللغة العربية والدين والوطنية بذلت الجمعية جهودًا كبيرة في إصلاح أساليب التعليم وتدارك النقائص في المناهج المدرسية.

كان للجمعية عدة مجلات، منها “جريدة السنة النبوية المحمدية” التي صدر أول عدد منها في 1933 وإستمرت لفترة وقصيرة قبل توقفها بسبب تدخل السلطات الاستعمارية كما طبعت “جريدة الشريعة النبوية المحمدية” التي توقفت أيضًا بعد عدة أعداد. استمرت “جريدة الصراط السوي” في الصدور لفترة قصيرة قبل توقفها أيضًا، وبعد ذلك عادت الجمعية للطلب من السلطات الاستعمارية الرخصة لإصدار جريدة أخرى بعنوان “البصائر”، والتي إستمرت بالصدور حتى توقفت بسبب الحرب العالمية الثانية، ثم عادت للصدور بعد إنتهاء الحرب وإستمرت حتى عام 1956.

من الجدير بالذكر أن جريدة “البصائر” كانت الجريدة الوحيدة التي بقيت تصدر بعد وفاة عبد الحميد بن باديس، حيث عادت للصدور بإشراف وإدارة محمد البشير الإبراهيمي، رئيس الجمعية في ذلك الوقت. وقد بدأت الجريدة في الصدور مرة أخرى في عام 1947 واستمرت حتى عام 1956 قبل توقفها مجددًا بسبب احتدام الثورة التحريرية وتأزم الأوضاع.

توفي الإمام عبد الحميد بن باديس في عام 1940، لكن إرثه العظيم لا يزال حاضرًا في ذاكرة الجزائريين وفي مسار تاريخهم. فقد كان قائدًا روحيًا وعالمًا بارزًا ومناضلاً من أجل العلم والعدل والحرية، وهو ما جعله قدوة للأجيال اللاحقة في مواصلة النضال من أجل بناء وطن حر ومتقدم و الذي برز كقائد روحي وتعليمي وسياسي في تاريخ الجزائر الحديث. إن إرثه العظيم يظل حيًا في قلوب الجزائريين، ملهمًا للأجيال القادمة في مواصلة النضال من أجل بناء وطن حر ومتقدم.

كتبه :رافعي محمد محي الدين

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.