كيف كسِبَت الصين الجولة الأولى في حرب الكورونا وفازت بقُلوب وعُقول مُعظم شُعوب العالم؟
ولماذا نعتقد أنّ أمريكا ستَخسر عرشها في مرحلةٍ ما بعدها؟ وهل ستتمرّد أوروبا “العجوز” على هيمنة أمريكا التي خذلتها؟ إليكُم قراءةً تتضمّن بعض الجوانب الشخصيّة؟
أُصِبنا بحالةٍ من الرّعب، ولأسبابٍ عديدةٍ، من بينها شخصيّ، ونحن نُشاهد شريط فيديو لأحد مُستشفيات العاصمة الإسبانيّة مدريد وقد ازدَحمت ممرّاته “بالجُثث الحيّة” للعشَرات من المُصابين بوباء الكورونا، يفترشون الأرض، وبُدون أيّ عناية طبيّة، أو القليل جدًّا منها، وبعضهم فارق الحياة وحيدًا، وبطريقةٍ مأساويّةٍ يعجَز القلم عن وَصفِها.
أمّا الأسباب الشخصيّة، فتعود إلى أنّني كُنت في العاصمة الإسبانيّة قبل 17 يومًا حيث دعاني البيت العربي في مدريد لإلقاء مُحاضرة في الثالث من الشهر الحالي عن أحوال العرب بعد الموجة الثّانية من “الربيع العربي”، وما إذا كانت الثّالثة في الطّريق، وعندما اقترحت على المُنظّمين (البيت العربي تابع لوزارة الخارجيّة الإسبانيّة) تأجيل المُحاضرة، أو حتى إلغاءها، بسب انتشار فيروس الكورونا، قالوا إنّ إسبانيا شِبه خالية منه، وأنّ الحياة عاديّة والشوارع مُزدحمة، وما قالوه كان صحيحًا، فمقاعد الطائرة التي انطلقت من مطار هيثرو كانت مشغولةً بالكامل، وقاعة المُحاضرات كانت مُزدحمةً، وكذلك الشوارع والمقاهي والمطاعم، وهات يا عِناق، وقُبَل وتصوير مع عددٍ كبيرٍ من الحاضرين ومُعظمهم من العرب، وهذا المشهد ليس غريبًا على النّاطقين بلُغَة الضّاد.
الرّعب يأتِي من أنّه بعد يومين أو ثلاثة من مُغادرتي جرى الإعلان عن ارتفاع رقم الإصابات من أقل من مِئة إلى خانة الآلاف، بحيثُ وصل العدد الآن وبعد أسبوعين إلى 25 ألف إصابة، وأكثر من 1700 من بينها 375 حالة اليوم الأحد، ساعة كِتابة هذا المقال.
إنّه الإهمال، وسُوء التّقدير، وعدم أخذ الأُمور بالجديّة المطلوبة، وعدم استِبعاد نظريّة المُؤامرة، فأوروبا “القديمة” حسب وصف وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفليد أُخِذَت على حين غرّة، ابتداءً من إيطاليا التي بلغت عدد الوفيّات فيها 5000 حالة من بينها 651 حالة اليوم الأحد، ووصل الإصابات إلى 52 الف حالة، ومُرورًا بفرنسا (15 ألف إصابة و600 حالة وفاة)، وانتهاءً ببريطانيا (5683 إصابة ووفاة 281) التي يتزعّمها رئيس وزراء تُحرِّكه المُنطلقات العُنصريّة، ويُوصف بأنّه محدود الذّكاء، ليس لأنّه بثّ الرّعب في بريطانيا والعالم، عندما بشّر مُواطنيه بأنّهم سيفقدون أحبّاءهم، وأنّ حُكومته تتبنّى نظريّة “حصانة القطيع” وتُخطِّط لإصابة 60 بالمِئة من الشّباب لتكوين مناعة طبيعيّة، أمّا كِبار السّن والمُتقاعدون فعليهم أن يُواجهوا مصيرهم وحدهم، والنّظام الصحّي لا يستطيع أن يُقدِّم لهم إلا القليل في إطار تجديد دِماء الشّعب البريطاني “الهَرِم” والقضاء على شيخوخته.
يقولون لنا صراحةً، ودُون أيّ مُواربة، بأنّ بريطانيا على بعد أسبوعين أو ثلاثة من الوضع المأساوي الذي تعيشه إيطاليا، ونسأل، وما هي خُططكم لمنع الوصول إلى هذه النّهاية، يُجيبون بأنّ عليكم التزام بُيوتكم، وتنصح الحُكومة بإغلاق المطاعم والحانات والأندية الرياضيّة، والمسألة “خياريّة” وليست إجباريّة مِثل الكثير من الحُكومات الأخرى التي تُعطِي الأولويّة لصحّة كُل مُواطنيها بغض النّظر عن أعمارهم.
نظريّة “مناعة القطيع” يجري تطبيقها، ولكن بالتّدريج ودون إعلان رسمي، وأبلغني صديق مُخضرم بأنّ المُستشفيات لم تعد قادرةً على استِيعاب الأعداد الكبيرة من المُصابين، وباتت تُغلِق أبوابها في وجوه أعداد كبيرة منهم وتُطالبهم بالبقاء في منازلهم، لأنّها لا تملك الأعداد الكافية من الأسرّة، وأجهزة التنفّس الصّناعي اللّازمة.
الولايات المتحدة زعيمة العالم الغربي “الحُر” وشريكة الدول الأوروبيّة في حلف النّاتو لم تُقدِّم شحنةً طبيّةً واحدةً لمُساعدة هؤلاء الحُلفاء، بل ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك عندما عزَلت نفسها كُلِّيًّا، وأغلقت أبوابها في وجه مُواطنيها، وأوقفت كُل رحَلات الطيران من وإلى أوروبا، وحاولت احتكار تجارب واعدة لشركة ألمانيّة تُوشِك أن تُنتِج مَصلًا وعِلاجًا لهذا الوباء بعرض مِليار دولار، ولكنّ الوطنيّة الآريّة أحبطت هذه المُؤامرة اللّاأخلاقيّة واللّاإنسانيّة.
من المُفارقة أن دولة واحدة وغير غربيّة، هي التي تتصدّر المساعي لإنقاذ العالم من هذا الوباء، وتوظيف خبراتها لتطويقه في أسرع وقتٍ مُمكن، وهي الصين، فطائراتها المُحمّلة بالمعدّات والأدوية والمُختصّين، تطير إلى إيطاليا وإسبانيا وإيران والمغرب والجزائر وكُل دولة تحتاج المُساعدة، ووجّه شي جين بينغ رئيسها اليوم رسائل عاجلة إلى قادة العالم يُعلن فيها تعاطفه مع المُصابين بهذا الوباء، واستعداد بلاده لبذل كُل جُهد مُمكن لتقديم خُبرات الوقاية من العدوى، وكيفيّة السّيطرة على المرض، وتقديم خُطط التّشخيص والعِلاج وأدواته، ولن تبخَل بالمُساعدة والدّعم المُمكن في نِطاق قُدراتها.
رسائل الرئيس الصيني التضامنيّة وصلت إلى نُظرائه في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وتُؤكِّد ضرورة العمَل المُشترك في مُواجهة هذا الفيروس الذي يُهدِّد البشريّة جمعاء، ولا يُمكن مُواجهته والسّيطرة عليه إلا بالتّضامن والتّنسيق المُشتَرك عالميًّا.
إنّها مُبادرة إنسانيّة، وتحرّك مسؤول على المُستوى الدولي، تَعكِسان خريطةً جديدةً للقوّة التي ستتربّع على عرش العالم في مرحلةِ ما بعد انتهاء هذه المِحنة، خريطة لن يكون للولايات المتحدة مكان الصّدارة فيها، لأنّها فَشِلَت في الاختِبار، ولم تقُم بواجبات الزّعامة وشُروطها، والترفّع عن الأحقاد العُنصريّة، وإنهاء الحُروب والحِصارات والعُقوبات، وقيادة العالم إلى برّ الأمان في هذا الزّمن الصّعب.
السيّد علي خامنئي، المُرشد الأعلى للثّورة الإيرانيّة، كان مُصيبًا عندما قال في خِطابه المُتلفز اليوم بأنّه لن يقبل أيّ مُساعدات من أمريكا لأنّها هي الشّر، وقادتها كذّابون ماكِرون وقِحون جَشِعون مُخادِعون، وإذا كان لديهم معدّات فليستخدموها لإنقاذ شعبهم.
ما زلنا نتمسّك برأينا بأنّ المُخابرات الأمريكيّة هي المتّهم الأكبر بنشر هذا الفيروس، ابتداءً من مدينة ووهان، قلعة الصّناعة والاقتصاد الصيني، لتدميرها، ووصولًا إلى أوروبا القديمة التقليديّة المُتمثّلة في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، التي بدأت تتمرّد على الهيمنة الأمريكيّة، وتَخُط لنفسها خطًّا دفاعيًّا استراتيجيًّا مُستَقِلًّا عن أمريكا التي تُريد تفكيك الاتّحاد الأوروبي وإضعافه بفرض العُقوبات عليه، ودعم وتشجيع الانفِصال البريطاني.
إنّها حربٌ على زعامة العالم بين الصين الصّاعِدة، وأمريكا المُتراجِعة، وفيروس الكورونا هو أحدث أدواتها، وقد سجّلت الصين انتصارًا كبيرًا في جولتها الأولى والأحدث ليس على الفيروس فقط، وإنّما في كسب عُقول وقُلوب الكثيرين في أوروبا وآسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبيّة.. والأيّام بيننا.
عبد الباري عطوان رئيس تحرير رأي اليوم