السمعة “الحلال” والمنصب “الحرام”

 

قبل أن ألج صلب الموضوع ينبغي أن أقف وقفة مع ما يصيب الدلالة المعجمية للمصطلحات من التخصيص، حتى غدى بعضها في أذهان الناس، وقفاً على معنى محجورٍ بعينه، وأهملت في سياق ذلك دلالتها الأصلية من حيث اتساعها وشموليتها وتعدد مناحي التأويل فيها.

ذلك كلام أسوقه حتى لا يحكم على مصطلحات – أستعملها اليوم ويمكن أستعملها مستقبلا – حكماً جاهزاً منطلقاً من خطِّيةِ وتنميطِ الدلالة، ومَثَل ذلك:  كلمة “حرام” التي لا أريد أن يسار إلى تأويلها تأويلا دينياً محضاً، مع أنها دالة في معجميتها على: اقتراف الممنوع المستقبح في عمومه، ولا يتوقف فهمها على: التعدي على حدود الشرع الله المفضي إلى المروق من الدين.

وأما السمعة التي أقاربها في هذه الوقفة فهي ذات منشأ “حلال” يكتسبها هذا أوذاك من فعل الخير وخدمة الناس والتطوع في الفعاليات الاجتماعية، أما وجه “الحُرمة” فيما أعنيه فهو أن تتحول هذه السمعة إلى تاشيرة – مباشرة – لتبؤ مناصب ومهام في تسيير وتدبير الشأن العام، سواءً عن طريق عهدة انتخابية في المجالس المحلية أو ترأس هيئات ذات صلة بمعايش الناس ومصالحهم…، دونما تأهيل وأهلية يكون مصدرهما نضال وتكوين متماس مع المهمة المقصودة.

وأخشى – وأنا أطرح هذا الأمر- أن يدَّعى عليَّ بـ”تحريم الحلال”، فكيف السبيل وأغلب من يترشح إلى تلك المهام والمناصب لابد مقارفٌ قبل ذلك وبجواره, فعل الخير والمساهمة البدنية والمالية في دفع العوز والذِّلة عن طائفة غير قليلة من المجتمع؟ وهو ما يعني تداخلاً يستعصي فكه.

إنني أورم – والحال هاته – أن أدفع هذه “التهمة” بالقول: أن الواقع المعيش أثبت ضعفاً في استيعاب التحديات والاكراهات التي يقتضيها تدبير الشأن العام من قِبلِ كثيرين ممن جاؤوا إلى هذه المناصب من طريق “السمعة الحسنة” و”نظافة اليد” المتأتيتين عن العمل الخيري والتضامني، إذا كان صاحبهما لم يقرن ذلك بنضال وكفاءة مكتسبين من علاقة مع الهئيات الحزبية أوالمهنية…الخ،

بل ويصل الأمر في أحايين عديدة إلى الانحراف وتضييع العهدة أوالتخلي عنها نتيجة للمفاجئة وعدم الاستعداد لمواجهة تلك التحديات والاكراهات، هذا من جهة.  ومن جهة أخرى تتماهى في أذهان الناس صورة الخدمة الاجتماعية التضامنية مع أهلية تبوء المناصب والمهام، فيحسب كل ناجح في الأولى أنه قمين بالثانية، ويُتخذُ  فعل الخير والتطوع حين ذلك سبيلا وعوضاً عن الاستعداد والأهلية في استلام وإدارة شؤون الناس. بحجة أن التضحيات بالوقت والمال والجهد لمساعدة الناس، تمنح صاحبها صكاً على بياض يوجب على “الناس” أن يفوضوه من خلاله، بل ويفضلونه به على غيره وإن فاته بالكفاءة والاستحقاق.

وإذا اعتبرنا أن “الناس” باختيارهم لهذا أو ذاك (بالانتخاب أو التزكية) يتحملون مسؤولية جانب من نجاحه أو فشله في مهمته، فإن النتيجة الأكثر سلبية في الموضوع هو أن يزهدَ عدد غير يسير من “الناس” – شيئأً فشيئأً- في الالتفاف حول كل مبادر للتطوع والتضامن مخافة أن يكونوا بذلك “سلالم” لطموحاته السياسية والمهنية، ناهيك عن أن كثير من المنتقلين إلى مهامهم ومناصبهم الجديدة يفقدون بشكل مباشر أو غير مباشر صلتهم  بما كانوا يقدمون من التطوع والتضامن فينقطع بذلك نفع كثير.

إن سِيَرَ أكثر الخَيِّيرين شهرة في العالم، تثبت زهدهم في تعاطي إدارة الشان العام وارتقاء المناصب، مع قدرتهم العلمية والفكرية والجسدية عليها. ولم يكن فعلهم ذاك إلا علامات مضيئة لكل منتسب إلى العمل التضامني والخيري ليعلم أنه صاحب رسالة. وليحذر مقارفة تدبير الشأن العام، إلا بعد التبصر والاستشارة والاستخارة، وأن لا يقع في حبائل الذين يحسنون له الأمر ويغرونه به، مع يعرف عن نفسه من ضعف أمام المناصب أو قلة الكفاءة.  

 لقد اخترت العمل التضامني الخيري لأخصه بهذه الوقفة، ليس لاستقلاله بامكانية التباس “السمعة الحلال بالمنصب الحرام”، فذلك ممكن في قطاعات عديدة مثل: النقابة ومنابر الخطابة ونجومية الرياضة والفن…. وغيرها، وهو الالتباس الممكن أيضا في تبؤ المناصب العليا بوظائف والادارة..، ولكن أملت عليَّ وقفتي هذه، خصوصية العمل التضامني الخيري- في بواعثه وخصائصه ومراميه. دون أن أهدف إلى حَجْرِ واسع ولا لتحييز مبسوط… فالناس كالبصمات في اختلاف إمكاناتهم، و”كل ميسر لما خلق له”.      

   كتبه : عبد القادر اعبيد       

  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.